24/01/2010

تفاعلا مع مشروع الدستور المقترح : المعايير الدولية لاستقلال السلطة القضائية

تفاعلا مع مشروع الدستور المقترح : المعايير الدولية لاستقلال السلطة القضائية

لقد اعتبر القضاة ورجال القانون عامة في تونس وبشكل دائم أن إفراد الدستور منذ صدوره في أول جوان 1959 السلطة القضائية بمقتضيات خاصة أمر يؤدي إلى اعتبار الوظيفة القضائية ترجع إلى سلطة داخل الدولة تمارس نفوذها مع السلطتين التنفيذية والتشريعية. و بناء على ذلك فان الإقرار بان القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون( الفصل 65 من الدستور) وان الضمانات اللازمة للقضاة من حيث التعيين والترقية والنقلة والتأديب يسهر على تحقيقها مجلس أعلى للقضاء( الفصل 67 من الدستور) أمران لا يدعان مجالا للشك
غير أنه ولئن كان استقلال القضاء يشكل مبدأ دستوريا أكيدا إلا أن ترديد هذا المبدأ على المستوى النظري لا يفيد القاضي في القيام بدوره إذا لم يكرس على ارض الواقع وذلك بإقرار جملة من الضمانات المستوجبة لصياغة وضعية مستقلة للوظيفة القضائية. وانه لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا توفرت جملة من المبادئ الدستورية والقانونية والهيكلية التي نسوقها هنا والتي ناقشنا في بعضها الإصلاحات الدستورية التي طرحها الأستاذ نجيب الشابي في دستوره الذي اقترحه والمنشور في جريدة الموقف بتاريخ 25 ديسمبر 2009 . .


1) الدستور
أ ) السلطة القضائية سلطة مستقلة

لا بد أن يكون هذا المبدأ منصوصا عليه بالدستور بهذه الصيغة لا بصيغة أخرى تبدو قريبة منها وقد تدخل الالتباس عليها. لقد كان الأستاذ ألشابي حبيسا لرؤية المشرع التأسيسي للسلطة القضائية إذ أعاد في مشروعه نفس المعنى ونفس المصطلحات الواردة بالفصل 65 من دستور 1959. معتبرا أن" القضاة مستقلون لا سلطان عليهم" يعني بالضرورة تبويئ القضاء كسلطة مستقلة، في حين أن وصف القضاء بالسلطة لم يرد إلا كعنوان للباب الرابع من الدستور الحالي وهو المخصص للقضاء بعد تخصيص الباب الثاني للسلطة التشريعية والباب الثالث للسلطة التنفيذية . إن مضامين الفصول الأربعة التي يتألف منها الباب الرابع لا تتعرض للقضاء كسلطة ولا تنص على استقلاله بتلك الصفة على خلاف عديد الدساتير. و لقد وردت عبارة الاستقلال في الباب الرابع في الفصل 65 وهي تنص على إن القضاة مستقلون وليس على ان القضاء سلطة مستقلة وانطلاقا من تحرير الدستور على حاله فان عدم التعرض للقضاء كسلطة مستقلة يمكن اعتباره خللا جوهريا في وصف النظام الجمهوري الذي يقوم أساسا على تأكيد التفريق بين السلط الثلاث . وان ما يمكن استنتاجه على مستوى صياغة النصوص المتعلقة بالقضاء وإذا ما علمنا ان القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 967 المتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة لا يتضمن هو كذلك من بين فصوله التنصيص على القضاء كسلطة مستقلة هو وجود قصد في ذهنية المشرع التأسيسي لتغييب ذكر القضاء كسلطة أولا ثم كسلطة مستقلة ثانيا الشيء الذي من الممكن أن الأستاذ الشابي لم يتفطن له. وان الفرق واضح بين وصف القضاة كإفراد بأنهم مستقلون وبين وصف القضاء بالسلطة المستقلة لان ذلك يقتضي بالضرورة الإعلان صلب الدستور على الضمانات الجوهرية التي تكفل مكانة القضاء كسلطة مستقلة ومنها خاصة مبدأ عدم نقلة القضاة إلا برضاهم وقيام تركيبة المجلس الأعلى للقضاء على مبدأ التمثيلية الأوسع على قاعدة الانتخاب ،استبعادا لكل تبعية للسلطة التنفيذية من قبل السلطة القضائية. وهكذا فان الاختلال بين السلطتين مقنن بدستور.1959.. ويتكرر هذا الاختلال في الدستور المقترح الذي يتحدث بدوره عن القضاة كأفراد مستقلين، لا كسلطة مستقلة.
ب ) مبدأ عدم نقلة القاضي إلا برضاه
لا شك أن الأستاذ الشابي قد فعل خيرا حين أدرج هذا المبدأ صلب دستوره وهو المبدأ الذي لا وجود له في دستور 1959 . ولا شك أيضا ان إدراجه له هو انعكاس وفيّ للإجماع الحاصل لدى الرأي العام التونسي بخطورة غياب ضمانات استقلال القضاء وهشاشة الوضع القانوني للقضاة اثر الانقلاب الحاصل على جمعية القضاة التونسيين.
وفعلا فانه من الضروري أن يتضمن الدستور تنصيصا صريحا على مبدأ عدم نقلة القاضي إلا برضاه وذلك على شاكلة كثير من الدساتير التي أقرت هذا المبدأ. وإنه على ضوء المقارنة البسيطة بين دستورنا ودساتير البلدان القريبة منا أو التي لا تختلف عنا من حيث تجربتها الديمقراطية الفتية نلمس حجم التخلف الذي يتصف به دستورنا. إذ حرصت هذه الدساتير على النص صراحة على هذا المبدأ ويمكن هنا أن نشير إلى دساتير مصر والجزائر ومالي وغيرها. إن لهذا المبدأ الذي يجب أن يرتفع إلى المستوى الإقرار الدستوري كما يجب ان يكون مضمنا بالقانون الأساسي للقضاة أهمية قصوى خاصة وان هذا القانون الأخير لا يكتفي بمجرد إهماله له بل يشوهه حين يتحايل عليه في الفصل عشرين مكرر منه فيحول صيغة النفي الى صيغة إثبات فتصير "عدم نقلة القاضي إلا برضاه" إلى" نقلة القاضي برضاه وذلك طيلة السنوات الخمس لعمله في آخر مركز معين به" مع وضع سبعة استثناء تأخذ بيد ما تعطيه باليد الأخرى. إن القاضي لا يمكنه أن يقدم عدالة تتجاوز ما هو موجود بدستور بلاده وبقانونه الأساسي. و إن نقلة القاضي الإجبارية تحد من نزعته الاستقلالية ولا تجعله مطمئنا على استقراره وتدفعه إلى البحث عن حلول شخصية لعل أسوأها بل أخطرها الخضوع إلى الضغوطات التي تمارس عليه وخاصة في النزاعات التي تثور بين الفرقاء السياسيين من سلطة وأحزاب معارضة ومكونات مجتمع مدني. لذلك فان استقلال القضاء يعني من هذه الناحية عدم التدخل في السير الطبيعي لحياة القاضي. إن جلالة هذا المبدأ بالمعنيين التاريخي والسياسي والذي اقرّ على مستوى الاتفاقات الدولية الخاصة بالقضاء أو على مستوى الدساتير تفسره مسارات نضالية مهنية وسياسية مكلفة انتهت إلى اليقين بكون نقلة القاضي في ارتباطها الوثيق باستقلاله هي من الضمانات الأساسية لإرساء الديمقراطية ودولة القانون وهو ما يقتضي بالضرورة وعلى المستوى الرمزي إفراد هذا المبدأ بفصل خاص وعدم الإشارة صلبه إلى آية استثناءات كما يفعل الأستاذ الشابي حتى يتحول إلى قاعدة ثابتة لها حماية الدستور لا تطالها استثناءات -إن دعت إليها الضرورة -إلا بغاية التضييق والصرامة حفاظا على قدسيته. فعدم نقلة القاضي هي ضمانة قانونية وسياسية مركزية في دولة القانون ولسيت امتيازا . إذ أن نقلة القاضي لا تقاس بنقلة الموظفين. ومن هنا مكانة المبدأ في الدساتير والمواثيق الدولية ولذلك اكتفت معظم الدساتير بإقرار المبدأ دون تحميل الفصل الناص عليه غير المبدأ نفسه. ولا شك أن الأستاذ على علم بالظرفية الحرجة التي يعيشها القضاء والقضاة في تونس اثر الانقلاب على المكتب الشرعي لجمعيتهم واستخدام النقلة لتفكيك هياكلها ولا شك انه على علم أيضا بما ال إليه هذا المبدأ عندما أغرقه القانون الأساسي للقضاة باستثناءات أفرغته من محتواه ولذلك فانه كان من الأفضل الاقتصار على التنصيص على علويته كمبدأ دستوري لا غير

2) المجلس الأعلى للقضاء

من الضمانات الأساسية لاستقلال القضاء احترام مبدأ فصل السلطات الثلاث وعدم جواز تدخل أية سلطة في تسيير شؤون بقية السلط. لهذا لا بد من وجود مجلس أعلى للقضاء .ولقد أوكلت اغلب الدساتير مهمة السهر على استقلال القضاء وتحقيق الضمانات اللازمة للقضاة من حيث الانتداب والترقية والنقلة والتأديب إلى مجلس أعلى للقضاء . ولا يمكن لهذا المجلس ان يقوم بوظيفته إلا إذا توفرت مجموعة من الشروط : :
أ ) مبدأ الانتخاب في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء وذلك بالتنصيص على انتخاب أعضائه انتخابا مباشرا وسريا والتأكيد على تمثيلية أعضائه لكافة القضاة واعتماد نفس المبدأ سواء في تركيبته الأصلية أو في تركيبة اللجنة المنبثقة عنه كالمجلس تأديب
ب) تنظيم المجلس الأعلى للقضاء وذلك بإيجاد مقر دائم له وضبط وتيرة اجتماعاته وتمكين جميع أعضائه من ممارسة مهامهم . وفي هذا المجال لا بد من وجود لجنة منبثقة عن المجلس الأعلى للقضاء لتهيئة أعماله تكون مهمتها ضبط جدول الترقية وإعداد حركة القضاة مع اعتبار رغباتهم وتنهي اللجنة أعمالها إلى المجلس قبل انعقاده.
ج) التأكيد على حق القضاة في ممارسة الاعتراض على أعمال المجلس الأعلى للقضاء أو على انتخاب أعضائه وذلك لان هذا الاعتراض يعكس مشاركتهم في تطوير أوضاعهم وتدعيم تمثيلية المؤسسات المعنية بشؤونهم
د ) التأكيد عل حق القضاة في الالتجاء إلى دعوى الإلغاء لأي مقرر من مقررات المجلس الأعلى للقضاء لان القول بان الضمانات اللازمة للقضاة يسهر على تحقيقها مجلس اعلي للقضاء لا يستبعد بالضرورة اختصاص القضاء الإداري في النظر في المنازعات المتعلقة بشؤون القضاة بما في ذلك المادة التأديبية كما أن استحداث طعن من درجة أولى صلب المجلس الأعلى للقضاء في تركيبة خاصة لا يبرر إقصاء جهة الاختصاص الطبيعية وهي المحكمة الإدارية من النظر في المنازعات القضائية, التي تعتبر بطبيعتها منازعات إدارية

ه ) إخضاع كل قرار يتخذ قصد إجراء بحث إداري ضد القاضي إلى إذن المجلس الأعلى للقضاء وعدم إضافة أية وثيقة تمس من اعتبار القاضي بملفه الشخصي غير قرارات ذلك المجلس

3) حرية القضاة في الاجتماع وتكوين الجمعيات
إن تمتع القضاة بحرية الاجتماع لتمثيل مصالحهم على اختلافها يعد شرطا أساسيا من شروط استقلال القضاء وإن الأسباب التي تدعو إلى تكوين جمعيات هي أسباب دستورية وموضوعية إذ تهدف الجمعيات المهنية إلى الدفاع عن مصالح منخرطيها ومن أوكد الواجبات المحمولة على الجمعيات القضائية الدفاع عن استقلال القضاء المنصوص عليه بالدستور والعمل من خلال أنشطتها وأهدافها وبرامجها على حماية الوضعية الدستورية للسلطة القضائية ومناقشة الاعتمادات التي تخصصها الدولة لإدارة القضاء والمساهمة في إعداد مشاريع القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان عامة والمتقاضين خاصة وهكذا فانه في مثل هذه الصور فإنه لا يمكن للقاضي الدفاع عن تلك المبادئ والمصالح بصورة منفردة بل هو في حاجة إلى جمعية غير مقيدة بواجب التحفظ كما هو الشأن بالنسبة للقاضي ومتحررة من الضغوط اليومية والقيود الدستورية والقانونية التي تكبل نشاط القضاة خارج إطار المهنة
4) تاهيل وتدريب القضاة
ان مسالة تكوين القضاة ورسكلتهم هي من الشروط الأساسية لضمان استقلال القضاء. انه من الضروري تكوين القضاة تكوينا قانونيا مقتدرا لضمان تأهيلهم لتولي الوظيفة القضائية بما يكفل حسن إدارتها ويضمن إخضاع برامج التأهيل بكل جوانبها لإشراف السلطة القضائية.ولا بد من اجل تحقيق ذلك توفر الشرطين التالين
أ) يجب أن يشمل تكوين القضاة تشبعهم بثقافة استقلال القضاء والتحلي بالشجاعة و والجرأة والصرامة في رد الضغوطات والتدخلات التي يمكن ان تعيق قضاءهم بحياد واحتكاما لسلطة القانون في ما يعرض عليهم من نزاعات مهما كانت إطرافها من أفراد وسلط وحثهم باستمرار على احترام حق الدفاع والتقيد بشروط المحاكمة العادلة كي لا تتحول معاهد القضاء التي تشرف عليها السلطة التنفيذية بمفردها إلى مؤسسات لترويض القضاة وتدريبهم على الامتثال لرؤسائهم
ب) العمل على تطوير المعاهد والمراكز المتخصصة في تأهيل القضاة سواء من حيث مناهجها أو إمكانياتها البشرية والمادية وخاصة إقدار القاضي على استعمال الوسائل المعلوماتية والتقنيات الحديثة بما يكفل تعصير إدارة القضاء ولا يمكن التغاضي اليوم عن علاقة القضاة بالوسائط الحديثة التي لا يتوقّف استعمالها على رقن النصوص أو جمع المعلومات القانونية واستغلالها بل يهدف الى تبادل الخبرات القانونية بين القضاة وتشجيع البحث العلمي في المجالات القانونية
غياب هذه الضمانات وهيمنة السلطة التنفيذية في تونس
إن غياب التنصيص على استقلال السلطة القضائية كسلطة وليس كأفراد وغياب مبدأ عدم نقلة القاضي إلا برضاه صلب الدستور التونسي والهيمنة الكلية على المجلس الأعلى للقضاء من قبل الإدارة وغياب مبدأ الطعن في قراراته لدى القضاء الإداري والتدخل السافر في شؤون جمعية القضاة إلى حد تنفيذ انقلابات داخلها قلما تشاهد في بلدان أخرى وضعف تاطير القضاة وتنشئتهم على احترام حق الدفاع وضمان توفر شروط المحاكمة العادلة كل ذلك يجعل كثيرا من هذه الضمانات التي جئنا على تفاصيلها غير متوفرة في بلادنا وهو ما يحمل القضاة والمحامين والأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني المسؤولية التاريخية في المطالبة بها
ان استقلال القضاء شرط لا محيد عنه إذا أردنا أن نرتبط بفضاء الحرية وهي صميم الإصلاح ولبه الذي ينتظر دعمه في المرحلة الحالية . وهو المدخل الصحيح والبداية الضرورية لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي في أية دولة،. إن استقلال القضاء وتوفير ضماناته ليس فقط ضمانا للعدل و لحرية المواطنين وإنما هو شرط للحفاظ علي حرية الوطن ذاته ، وهو ما أدركه بوعي عال يستحق التنويه قضاة الهيئة الشرعية في كفاحهم من أجل استقلال القضاء في تونس،ومن خلال مطالبهم التي يجب أن تتحول إلى مطالب عامة. فإليهم كل التقدير و الإجلال.


عارف البلدي
الموقف بتاريخ 22 جانفي 2010


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire